فصل: تفسير الآيات (7- 9):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (7- 9):

{وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9)}
ولما كان التقدير: فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم امتثالاً لأمرنا ذلك، فلم يتمنوه في الوقت الحاضر، تصديقاً منا لنبوته وتعجيزاً وتحقيقاً لمعجزات رسالته، دل على هذا المقدر بما عطف عليه من قوله الدال قطعاً على صدقه بتصديقهم له بالكف عما أخبر أنهم لا يفعلونه: {ولا يتمنونه} أي في المستقبل، واكتفى بهذا في التعبير بلا لأن المذكور من دعواهم هنا أنهم أولياء لا كل الأولياء فهي دون دعوى الاختصاص بالآخرة، وأيضاً الولاية للتوسل إلى الجنة، ولا يلزم منها الاختصاص بالنعمة بدليل أن الدنيا ليست خالصة للأولياء المحقق لهم الولاية، بل البر والفاجر مشتركون فيها. ولما أخبر بعدم تمنيهم، وسع لهم المجال تحقيقاً للمراد فقال: {أبداً} وعرف أن سببه معرفتهم بأنهم أعداء الله فقال: {بما قدمت} ولما كان أكثر الأفعال باليد، نسب الكل إليها لأنها صارت عبارة عن القدرة فقال: {أيديهم} أي من المعاصي التي أحاطت بهم فلم تدع لهم حظاً في الآخرة بعلمهم.
ولما كان التقدير تسبباً عن هذا: لئلا يقولوا: سلمنا جميع ما قيل في الظالمين لكنا لسنا منهم فاللّه عليم بهم في أفعالهم ونياتهم، عطف عليه قوله معلقاً بالوصف تعميماً وإعلاماً بأن وصف ما قدموا من الظلم {والله} أي الذي له الإحاطة بكل شيء قدرة وعلماً {عليم} أي بالغ العلم محيط بهم- هكذا كان الأصل، ولكنه قال: {بالظالمين} تعميماً وتعليقاً بالوصف لا بالذات، فالمعنى أنه عالم بأصحاب هذا الوصف الراسخين فيه منهم ومن غيرهم فهو يجازيهم على ظلمهم وهم يعلمون ذلك، وأعظم مصدق الله- ومن أصدق من الله قيلاً- في هذا أنهم ما قوتلوا قط إلا أرزوا إلى حصونهم وقراهم كما مر في سورة الحشر، فدل ذلك على أنهم أحرص على الحياة الدنيا من الذين أشركوا كما مر في سورة البقرة فإنهم عالمون بأنهم يصيرون إلى النار، والعرب يظنون أنهم لا يبعثون فهم لا يخافون ما بعد الموت وهم شجعان يقدمون على الموت كما قال عنترة بن شداد العبسي:
بكرت تخوفني المنون كأنني ** أصبحت عن عرض الحتوف بمعزل

فأجبتها أن المنية منهل ** لابد أن أسقى بذاك المنهل

فافني حياك لا أبا لك واعلمي ** أني امرؤ سأموت إن لم أقتل

ولما كان عدم تمنيهم علم من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم لموافقته ما أخبر به، وكان ذلك فعل من يعتقد أن التمني يقدمه عن أجله وعدمه يؤخره، فصاروا بين التكذيب بما عندهم ونهاية البلادة، أمره صلى الله عليه وسلم بتنبيههم على بلادتهم تبكيتاً لهم فقال: {قل} وأكد إعلاماً لهم بأنه يلزم من فعلهم هذا إنكار الموت الذي لا ينكره أحد فقال: {إن الموت} وزاد في التقريع والتوبيخ بقوله: {الذي تفرون منه} أي بالكف عن التمني الذي هو أيسر ما يكون مع أنه يوصلكم إلى تكذيب من أنتم جاهدون في تكذيبه، وأكد وقوعه بهم لأن عملهم عمل من هو منكر له، وربطه بالفاء جعلاً لفرارهم كالسبب له، فإن الجبن من أسباب الموت مع ما يكسب من العار كما قال: إن الجبان حتفه من فوقه أي هو غالب عليه غلبة العالي على السافل فقال: {فإنه ملاقيكم} أي مدرككم في كل وجه سلكتموه بالظاهر أو الباطن.
ولما كان الحبس في البرزخ أمراً- مع أنه لابد منه- مهولاً، نبه عليه وعلى طوله بأداة التراخي فقال: {ثم تردون} ونبه بالبناء للمفعول على القهر منه سبحانه والصغار منهم وأنه عنده في غاية السهولة {إلى عالم الغيب} وهو كل ما غاب عن العباد فهو مخبر عن أخلاقكم عن علم. ولما كان بعض الفلاسفة يقر بعلمه تعالى بالكليات، وينكر علمه بالجزئيات قال: {والشهادة} وهي كل ما ظهر وتشخص ولو لواحد من الخلق قبل كونه وبعد كونه. ولما كان التوقيف على الأعمال فظيعاً مرجفاً، قال مسبباً عن الرد: {فينبئكم} أي يخبركم إخباراً عظيماً مستقصى مستوفى {بما كنتم} أي بما هو لكم كالجبلة {تعملون} أي بكل جزء منه مما برز إلى الخارج ومما كان في جبلاتكم ولو لقيتم لعلمتموه ليجازيكم عليه.
ولما قبح سبحانه المخالقة بين القول والفعل وصور صاحبها بصورة الحمار على الهيئة السابقة، وحذر من ذلك بما هيأ به العاقل للإجابة إلى دوام الطاعة بعد أن بين أن جميع الكائنات مقرة بشمول ملكه بما لها من التسبيح بألسنة الأحوال، والقيام في مراداته بغاية الامتثال، فكان العاقل جديراً بالمبادرة إلى غاية التسبيح بلسان المقال، وختم بالتحذير من الإخبار يوم الجمع الأعظم بجميع الأعمال، قال على طريق الاستنتاج مما مضى من الترغيب والترهيب، نادباً لهم- ليكونوا أولياء الله- إلى التزكية المذكورة التي هي ثمرة الرسالة بما حاصله الإقبال بالكلية على الله والإعراض بالكلية عن الدنيا ليجمع المكلف بين التحلي بالمزايا والتخلي عن الدنايا، فخص من المزايا أعظم تسبيح يفعله العاقل في أيام الأسبوع وهو الإسراع بالاجتماع العظيم في يوم الجمعة الذي يناظر الاجتماع لإجابة المنادي في يوم الجمع الأكبر، ثم الإقبال الأعظم بفعل صلاة الجمعة التي هي سر اليوم الذي ضيعه اليهود واستبدلوا به ما كان سبب تعذيبهم بعذاب لم يعذب به أحد من العالمين كما جعل نتيجة السورة الماضية النداء بالإرشاد إلى الإيمان والجهاد الموجب للأمان: {يا أيها الذين آمنوا} أي أقروا بألسنتهم بالإيمان وألهبهم بأداة البعد- المشيرة إلى احتياجهم إلى التزكية- إلى المبادرة إلى الإقبال على ما يتعقب ذلك من الأوامر {إذا نودي} أي من أي مناد كان من أهل النداء {للصلاة} أي لأجل الحضور إليها وإليه عند قعود الإمام على المنبر للخطبة.
ولما كانت الإجابة يكفي في إيجابها النداء في الوقت المعروف للنداء ولا يشترط لها استغراق النداء لجميع اليوم أتى بالجار فقال: {من يوم الجمعة} أي اليوم الذي عرض على من قبلنا فأبوه فكانوا كمثل الحمار يحمل أسفاراً وادخره الله لنا ووفقنا لقبوله، فكانوا لنا تبعاً مع تأخرنا عنهم في الزمان، سمي بذلك لوجوب الاجتماع فيه للصلاة، فعلة بالسكون ويضم اسم للمفعول كالضحكة للمضحوك منه، فإن فتح ميمه كان بمعنى الوقت الجامع كالضحكة للكثير الضحك، ومن جمعه أن فيه اجتمع خلق آدم عليه الصلاة والسلام فاجتمع بخلقه جميع الخلق، وهو مذكر بيوم البعث والجمع الذي يقع فيه الإنباء بالأعمال، وتظهر فيه ظهوراً بيناً تاماً الجلال والجمال {يوم يناد المناد من مكان قريب} [ق: 41] وفيه تقوم الساعة، روى مالك عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم عليه الصلاة والسلام وفيه أهبط وفيه مات وفيه تيب عليه، وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي مصيحة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس مشفقاً من الساعة إلا الجن والإنس، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطاه إياه» وفي آخر الحديث أن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: إنها آخر ساعة يوم الجمعة، وأول الصلاة بما هو أعم من فعلها وانتظارها لقول النبي صلى الله عليه وسلم «من جلس مجلساً ينتظر الصلاة فهو في صلاة حتى يصليها» وكان النداء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم عند باب المسجد إذا صعد صلى الله عليه وسلم على المنبر، فإذا نزل بعد الخطبة أقيمت الصلاة، وكذا في زمن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فلما كان عثمان رضي الله عنه وكثر الناس وتباعدت المنازل وقلت الهمم زاد مؤذناً آخر على داره التي تسمى الزوراء، فإذا جلس على المنبر أذن المؤذن ثانياً الأذان الذي كان على زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا نزل من المنبر أقيمت الصلاة، ولم يعب أحد على عثمان زيادة الأذان الأول لعلمهم أنه من السنة بما جعل إليه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي».
ولما كان المراد إيجاب المعنى جزماً من غير تردد مع قطع كل علاقة بلا التفات إلى شيء من غير ما عذر الشارع به، عبر عنه بالسعي، وهو معنى قول الحسن أنه السعي بالنية لا بالقدم، فقال: {فاسعوا} أي لتكونوا أولياء الله ولا تهاونوا في ذلك لتكونوا أعداءه كاليهود {إلى ذكر الله} أي الخطبة والصلاة المذكرة بالملك الأعظم الذي من انقطع عن خدمته هلك، هذا المراد بالسعي لا حقيقة بل هي منهي عنها كما قال صلى ا لله عليه وسلم: «إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون ولكن ائتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا».
ولما أمر بالمبادرة إلى تجارة الآخرة، وكان طلب الأرباح لكونها حاضرة أعظم مانع عن أمور الآخرة لكونها غايته، وكان البيع أجل ذلك لتعين الفائدة فيه ولكونه أكثر ما يشتغل به أهل الأسواق لكثرة الوافدين إلى الأمصار يوم الجمعة من الحواضر واجتماعهم للتجارة عند تعالي النهار، قال ناهياً عن تجارة الدنيا وكل ما يعوق عن الجمعة معبراً به عنها لأنه أعظمها: {وذروا البيع} أي اتركوه ولو على أقبح حالاته وأذلها وأحقرها، فأفاد النهي عن غيره من باب الأولى، ووقت التحريم من الزوال إلى فراغ الصلاة، فإن خالف وباع صح العقد مع عصيانه، فإن النهي ليس لعينه ولا لما هو داخل فيه ولا لما هو خارج ولازم له بل لأمر مقارن بطريق الاتفاق، وهو ما هو فيه من الذهول عن الواجب فهو كالصلاة في الدار المغصوبة والثوب المغصوب والوضوء بالماء المغصوب.
ولما أمر بما هو شاق على النفوس معبراً بالفعل المريض لفظاً ومعنى، رغب فيه بقوله: {ذلكم} أي الأمر العالي الرتبة من فعل السعي وترك الاشتغال بالدنيا {خير لكم} لأن الذي أمركم به له الأمر كله وهو يريد تطهيركم في أديانكم وأبدانكم وأموالكم وبيده إسعادكم وإشقاؤكم، وألهب إلى ذلك وزاد في الحث عليه بقوله: {إن كنتم} أي بما هو لكم كالجبلة {تعلمون} أي يتجدد لكم علم في يوم من الأيام فأنتم ترون ذلك خيراً، فإذا علمتموه خيراً أقبلتم عليه فكان ذلك لكم خيراً، وصلاة الجمعة فرض عين على كل من جمع البلوغ والعقل والحرية والذكورة والإقامة إذا لم يكن له عذر مما ذكره الفقهاء، وإنما عبر عنها بهذا إشارة إلى أن عاقلاً لا يسعه أن يترك ما يعلم أنه أعلى وجوه الخير، وكل من لا يجب عليه حضور الجمعة فإذا حضر وصلى مع الإمام سقط عنه فرض من الظهر ولا يكمل به عدد الجمعة إلا صاحب العذر، فإنه إذا حضر يكمل به العدد.

.تفسير الآيات (10- 11):

{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)}
ولما حث على الصلاة وأرشد إلى أن وقتها لا يصلح لطلب شيء غيرها، وأنه متى طلب فيه شيء من الدنيا محقت بركته مع ما اكتسب من الإثم، بين وقت المعاش فقال مبيحاً لهم ما كان حظر عليهم، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن شئت فاخرج وإن شئت فاقعد: {فإذا قضيت الصلاة} أي وقع الفراغ منها على أي وجه كان {فانتشروا} أي فدبوا وتفرقوا مجتهدين في الأرض في ذلك {في الأرض} جميعها إن شئتم، لا حجر عليكم ولا حرج رخصة من الله لكم {وابتغوا} أي وتعمدوا وكلفوا أنفسكم مجتهدين بالسعي في طلب المعاش {من فضل الله} أي زفلة الملك الأعلى الذي له كل كمال ولا يجب لأحد عليه شيء بالبيع والشراء وغيرهما من مصالح الدين والدنيا التي كنتم نهيتم عنها.
ولما كان السعي في طلب الرزق ملهياً عن الذكر، بين أنه أعظم السعي في المعاش وأن من غفل عنه لم ينجح له مقصد وإن تحايل له بكل الحيل وغير ذلك فقال: {واذكروا الله} أي الذي بيده كل شيء ولا شيء لغيره فإنه لا رخصة في ترك ذكره أصلاً. ولما كان العبد مطلوباً بالعبادة في كل حال فإنه مجبول على النسيان. فمهما فتر عن نفسه استولت عليها الغفلة فمرنت على البطالة فهلكت قال: {كثيراً} أي بحيث لا تغفلوا عنه بقلوبكم أصلاً ولا بألسنتكم حتى عند الدخول إلى الخلاء وعند أول الجماع وعند الإنزال، واستثنى من اللساني وقت التلبس بالقذر كالكون في قضاء الحاجة.
ولما كان مراد الإنسان من جميع تصرفاته الفوز بمراداته قال معللاً لهذا الأمر: {لعلكم تفلحون} أي لتكونوا عند الناظر لكم والمطلع عليكم من أمثالكم ممن يجهل العواقب على رجاء من أن تظفروا بجميع مطلوباتكم، فإن الأمور كلها بيد من تكثرون ذكره، وهو عالم بمن يستحق الفلاح فيسعفه به وبمن عمل رياء ونحوه فيخيبه، فإذا امتثلتم أمره كان جديراً بتنويلكم ما تريدون، وإن نسيتموه كنتم جديرين بأن يكلكم إلى أنفسكم فتهلكوا.
ولما كان التقدير مما ينطق به نص الخطاب: هذه أوامرنا الشريفة وتقديساتنا العظيمة وتفضلاتنا الكريمة العميمة، فما لهم إذا نودي لها توانى بعضهم في الإقبال إليها، وكان قلبه متوجهاً نحو البيع ونحوه من الأمور الدنيوية عاكفاً عليها ساعياً بجهده إليها فخالف قوله أنه أسلم لرب العالمين فعله هذا، عطف عليه قوله: {وإذا رأوا} أي بعد الوصول إلى موطنها المريح ومحلها الفسيح الشرح المليح، والاشتغال بشأنها العالي {تجارة} أي حمولاً هي موضع للتجارة. ولما ذكر ما من شأنه إقامة المعاش أتبعه ما هو أنزل منه وهو ما أقل شؤونه البطالة التي لا يجنح إليها ذو قدر ولا يلقي لها باله فقال: {أو لهواً} أي ما يلهي عن كل نافع.
ولما كان مطلق الانفضاض قبيحاً لأنه لا يكون إلا تقرباً على حال سيئ، من الفض وهو الكسر بالتفرقة، والفضاض ما تفرق من الفم والطلع: كسرهما، فكيف إذا كانت علته قبيحة، قال تعالى معبراً به: {انفضوا} أي نفروا متفرقين من العجلة.
ولما كان سبب نزول الآية أنه كان أصاب الناس جوع وجهد، فقد دحية الكلبي رحمه الله تعالى بعير تحمل الميرة، وكان في عرفهم أن يدخلوا في مثل ذلك بالطبل والمعازف والصياح، وكان قصد بعض المنفضين العير، وبعضهم ما قارنها من اللهو، ولكن قاصد التجارة هو الكثر، أنث الضمير فقال معلماً بالاهتمام بها لأن اللهو مسبب عنها: {إليها} وللدلالة على أنه إذا ذم قاصدها مع ما فيها من النفع والإنسان لابد له من إصلاح معاشه لقيام حاله ولاسيما والحاجة إذ ذاك شديدة، كان الذم لقصد اللهو نم باب الأولى.
ولما كان ذلك حال الخطبة التي هي جديرة بشدة الإصغاء إليها والاتعاظ بها في صرف النفس عن الدنيا والإقبال على الآخرة قال: {وتركوك} أي تخطب حتى بقيت في اثني عشر رجلاً، قال جابر رضي الله عنه: أنا أحدهم، ودل على مشروعية القيام بقوله: {قائماً} فالواجب خطبتان: قائماً يفصل بينهما بجلوس، والواجب فيهما أن يحمد الله تعالى ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويوصي بتقوى الله تعالى، هذه الثلاثة واجبة في الخطبتين معاً، ويجب أن يقرأ في الأولى آية من القرآن وفي الثانية أن يدعو للمؤمنين، فلو ترك واحدة من هذه الخمس لم تصح الخطبة عند الشافعي رضي الله عنه، ولجواز الجمعة خمس شرائط: الوقت وهو وقت الظهر، والعدد وهو الأربعون، والإمام والخطبة ودار الإقامة، فإن فقد شرط وجبت الظهر، ولا تبتدأ الخطبة إلا بعد تمام، وبقاء هذا العدد شرط إلى آخر الصلاة، فإن انفض بعضهم ثم عاد ولم يفته شيء من الأركان صحت.
ولما كان هذا فعل من سفلت همته عن سماع كلام الحق من الحق، أمره صلى الله عليه وسلم بوعظهم إلهاباً لهم إلى الرجوع إلى تأهلهم للخطاب ولو بالعتاب قال: {قل} أي لهم ترغيباً في الرجوع إلى ما كانوا عليه من طلب الخير من معدنه: {ما عند الله} أي المحيط بجميع صفات الكمال من الأعراض العاجلة في الدنيا من واردات القلوب وبوادر الحقيقة، الحاصل من سماع الخطبة الآمر بكل خير، الناهي عن كل شر، المفيد لتزكية الباطن وتقويم الظاهر والبركة في جميع الأحوال والآجلة في الآخرة مما لا يدخل تحت الوصف {خير} ولما قدم التجارة أولاً اهتماماً بها، قدم هنا ما كانت سبباً له ليصير كل منهما مقصوداً بالنهي فقال: {من اللهو} ولما بدأ به لإقبال الإغلب في حال الرفاهية عليه قال معيداً الجار للتأكيد: {ومن التجارة} أي وإن عظمت.
ولما كان من عنده الشيء قد لا يعطيه بسهولة وإذا أعطاه لا يعطيه إلا من يحبه قال: {والله} أي ذو الجلال والإكرام وحده {خير الرازقين} لأنه يرزق متاع الدنيا لسفوله ولكونه زاداً إلى الآخرة البر والفاجر والمطيع والعاصي، ويعطي من يريد ما لا يحصيه العد ولا يحصره الحد، وأما المعارف الإلهية والأعمال الدينية الدال عليها رونق الصدق وصفاء الإخلاص وجلالة المتابعة فلا يؤتيها إلا الأبرار وإن كانوا أضعف الناس وأبعدهم من ذلك ولا يفوت أحداً، أقبل على ما شرعه شيئاً كان ينفعه فلا تظنوا أن الغنى في البيع والتجارة إنما هو في متابعة أمر من أحل البيع وأمر به وشرع ما هو خير منه تزكية وبركة ونماء في الظاهر والباطن، روى صاحب الفردوس عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قال يوم الجمعة اللهم أغنني بحلالك عن حرامك وبطاعتك عن معصيتك وبفضلك عمن سواك سبعين مرة لم تمر به جمعتان حتى يغنيه الله تعالى» وأصل الحديث أخرجه أحمد والترمذي- وقال حسن- عن علي رضي الله عنه، وفي الباب عن ابن عباس رضي الله عنهما، فأقبلوا على متابعة رسوله صلى الله عليه وسلم وألزموا هدية واستمسكوا بغرزه تنالوا خيري الدارين بسهولة، فقد رجع آخر السورة كما ترى على أولها بما هو من شأن الملك من الرزق وإنالة الأرباح والفوائد ولاسيما إذا كان قدوساً وتبكيت من أعرض عن خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم اللازم منه استمرار الإقبال عليه ودوام الإقامة بين يديه، لأنه لا يدعوهم إلا لما يحييهم من الصلاة والوعظ الذي هو عين تنزيه الله وتسبيحه {يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة} [آل عمران: 164] يزكيهم ربهم ويرزقهم من فضله إنه كريم وهاب- والله أعلم بالصواب.